حين تُستهدف الأصوات الحقوقية.. العقوبات الأمريكية تكشف هشاشة منظومة العدالة العالمية
حين تُستهدف الأصوات الحقوقية.. العقوبات الأمريكية تكشف هشاشة منظومة العدالة العالمية
أثار قرار الإدارة الأمريكية فرض عقوبات على ثلاث من أبرز المنظمات الحقوقية الفلسطينية، وهي مؤسسة الحق، ومركز الميزان لحقوق الإنسان، والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، عاصفة من الانتقادات الحقوقية والدولية.
القرار، الذي جاء في سياق العقوبات الأوسع ضد المحكمة الجنائية الدولية، اعتُبر اعتداءً صارخاً على العمل الحقوقي وتهديداً مباشراً لمنظومة العدالة الدولية، وبينما بررت واشنطن هذه الخطوة بأنها تتعلق بمزاعم تتصل بصلات غير مشروعة، رأت منظمات حقوقية أن الهدف الحقيقي هو إسكات الأصوات الفلسطينية التي توثق الانتهاكات وتطالب بالمساءلة.
أسباب القرار الأمريكي
توسيع العقوبات ليشمل منظمات فلسطينية لا يمكن عزله عن التوتر المتصاعد بين الولايات المتحدة والمؤسسات الدولية، خصوصاً المحكمة الجنائية الدولية، هذه المحكمة كانت قد فتحت تحقيقاً في جرائم محتملة ارتكبت في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو ما أثار اعتراضات أمريكية وإسرائيلية قوية، وفي هذا السياق، بدا أن استهداف المنظمات الحقوقية الفلسطينية، التي تزود المحكمة بتوثيقات وشهادات، يمثل محاولة لضرب قنوات المساءلة من الداخل وتجفيف منابع الأدلة.
كما يأتي القرار امتداداً لسياسات أمريكية سابقة هدفت إلى حماية إسرائيل من التحقيقات الدولية. فمنذ مطلع الألفية الثانية، استخدمت واشنطن حق النقض في مجلس الأمن عشرات المرات ضد قرارات تنتقد سياسات الاحتلال، وهو ما يجعل العقوبات الأخيرة حلقة جديدة في سلسلة طويلة من محاولات تعطيل المساءلة.
ردود الفعل الحقوقية والدولية
منظمة العفو الدولية وصفت القرار بأنه "اعتداء مقلق ومخزٍ للغاية على حقوق الإنسان والسعي العالمي لتحقيق العدالة"، وأكدت أن هذه المنظمات الثلاث تقوم بعمل شجاع في توثيق الانتهاكات، رغم ظروف الحرب والحصار والنظام القمعي، وأنها تمثل صوت الضحايا الفلسطينيين الذين غالباً ما تُطمس معاناتهم.
مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان بدورها أبدت قلقها من أن العقوبات الأمريكية قد تعوق عمل المدافعين عن حقوق الإنسان، في وقت يحتاج فيه الفلسطينيون أكثر من أي وقت مضى إلى من يوثق الانتهاكات ويوصل أصواتهم إلى العالم، كما أصدرت منظمات محلية مثل شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية بيانات تؤكد أن الاستهداف الأمريكي يعكس ازدواجية المعايير ويكرس سياسة الإفلات من العقاب لإسرائيل.
الاتحاد الأوروبي، رغم تحفّظه التقليدي، دعا إلى ضمان حرية عمل منظمات المجتمع المدني الفلسطيني، محذراً من أن أي قيود قد تقوّض الجهود الرامية لتحقيق سلام عادل ودائم.
تداعيات على الأرض الفلسطينية
إضعاف المنظمات الحقوقية الفلسطينية ستكون له آثار إنسانية مباشرة، فهذه المؤسسات لم تكتفِ بتوثيق الانتهاكات، بل قدمت خدمات قانونية لضحايا الاعتقال التعسفي والتعذيب، ووفرت منصات للتدريب والتمكين القانوني، وإغلاق أو شلّ نشاطها يعني فقدان آلاف الفلسطينيين لمصدر دعم أساسي في مواجهة الاعتداءات.
كما أن حرمان هذه المؤسسات من التمويل الدولي نتيجة العقوبات يهدد بتوقف مشاريع التوعية، والتقارير الدورية، والدعم النفسي والاجتماعي للضحايا، وهو ما يزيد من هشاشة المجتمع المدني الفلسطيني أمام آلة الاحتلال العسكري.
القانون الدولي وازدواجية المعايير
ينص الإعلان العالمي لحماية المدافعين عن حقوق الإنسان، الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1998، على حق الأفراد والمنظمات في العمل بحرية لتوثيق الانتهاكات دون قيود أو تهديدات، وتتعارض العقوبات الأمريكية بوضوح مع هذا المبدأ، وتُظهر ازدواجية صارخة حين تُرفع شعارات حماية حقوق الإنسان عالمياً بينما يُستهدف أبرز من يدافعون عنها في فلسطين.
القانون الدولي الإنساني، وخاصة اتفاقيات جنيف، يؤكد ضرورة حماية المدنيين في الأراضي المحتلة، ومع ذلك، فإن استهداف المؤسسات التي ترصد الانتهاكات لا يخدم سوى مفاقمة الانتهاكات نفسها، ويُضعف قدرة المجتمع الدولي على التدخل بفعالية.
معلومات وحقائق
مؤسسة الحق تأسست عام 1979، وهي من أقدم المؤسسات الحقوقية الفلسطينية، لعبت دوراً محورياً في نقل الانتهاكات إلى المحافل الدولية، ومركز الميزان لحقوق الإنسان، الذي انطلق عام 1999، ركّز على سكان غزة المحاصرة وظروفهم المعيشية والإنسانية، أما المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، الذي تأسس عام 1995، فقد تميز بتوثيق الجرائم في غزة ومتابعة قضايا القانون الدولي الإنساني.
هذه المؤسسات ليست جديدة على الاستهداف؛ فقد واجهت اتهامات إسرائيلية متكررة بالارتباط بجهات محظورة، وهي اتهامات اعتبرتها الأمم المتحدة غير مثبتة.
الجديد اليوم هو انضمام الولايات المتحدة بشكل مباشر إلى حملة الضغط، بما يمنح غطاءً سياسياً إضافياً لمحاولات إسرائيل خنق المجتمع المدني الفلسطيني.
إحصاءات تدعم الصورة
تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن عام 2023 وحده شهد استشهاد أكثر من 500 فلسطيني في الضفة الغربية نتيجة عمليات عسكرية إسرائيلية، كما وثقت منظمات حقوقية اعتقال ما يزيد على 6 آلاف فلسطيني خلال العام نفسه، بينهم مئات الأطفال، وخلال الحرب الحالية على غزة تم توثيق استشهاد أكثر من 63 ألف شهيد بخلاف عشرات الالاف من الجرحى منذ أحداث 23 أكتوبر، وهذه الأرقام توضح حجم الانتهاكات التي تعمل المؤسسات الحقوقية على رصدها، وتفسر في الوقت نفسه لماذا تُعتبر مصدر إزعاج لإسرائيل وحلفائها.
في المقابل، تؤكد إحصاءات دولية أن أكثر من 70% من المنظمات الحقوقية العاملة في الأراضي الفلسطينية تعتمد بشكل رئيسي على التمويل الخارجي.
العقوبات الأمريكية على المنظمات الحقوقية الفلسطينية لا يمكن قراءتها فقط كإجراء إداري، بل كخطوة سياسية ذات أبعاد أعمق، فهي من جهة تضرب الثقة بمنظومة العدالة الدولية، ومن جهة أخرى تزيد من هشاشة المجتمع المدني الفلسطيني الذي يمثل خط الدفاع الأخير عن الضحايا، كما أنها تضع الولايات المتحدة في مواجهة مفتوحة مع المبادئ التي طالما رفعتها حول حرية التعبير وحماية المدافعين عن الحقوق.